قراءة في خطاب الشاعر الأمير عبد الله الفيصل عبر وحي الحرمان
د. صلاح فضل
من ميزات مصطلح الخطاب المتداول الآن في الدراسات الإنسانية والأدبية، أنه يشير بطريقة مباشرة إلى أطراف التواصل الجمالي، دون أن يغفل الطبيعة النوعية المميزة للنص، في معادلة متوازنة تشف عن الخواص الداخلية، وهي ترصد الإطار السياقي في اللحظة ذاتها فليست هناك انتقالات متعثرة بين الداخل والخارج، ولا فجوات واضحة في علاقتهما المتبادلة، وقد يجمع السمات المميزة لشعر عبد الله الفيصل على المستوى الأسلوبي والجمالي أن نصفه بأنه "خطاب الشاعر الأمير" فقارئه لا يستطيع أن يتجاهل هذه الحقيقة وهو يصنع أفق توقعاته ويستجيب لإشاراته ويبني دلالته، والنص ذاته ينطق بها في كل لغة وصياغة وترميز، ومهما حاول صاحبه أن يتجمل في تقديمه لذاته بإنكار الاسم حيناً، والتواضع حيناً آخر، فهو لا يستطيع أن ينسلخ من إهابه باعتباره الشاعر الأمير ولا يفيدنا هذا الانسلاخ شيئاً في القرب الحميم من أوضاع الشعر وفهمها وتذوقها، وإقرار مكانتها في ديوان الشعر المعاصر إبداعاً وتلقياً بالوسائط المختلفة.
وربما كانت مجموعة القصائد المغناة من هذا الشعر، في طبعات ذهبية ـ تحمل أصداء الحناجر العبقرية الصادحة على أوتار الثقافة الحية ـ هي التي يعد مستمعوها بالملايين المتكاثرة من جيل إلى آخر، وهي التي رسمت معالم صورة "الشاعر الأمير العاشق" كما أصبحت ماثلة بقوة في الوجدان العربي ولنا أن نعيد قراءتها نقدياً كي تتبين مواطن شعريتها وخواصها الأسلوبية والدلالية البارزة.
أولها قصيدة "عواطف حائرة" التي غنت معظم أبياتها أم كلثوم تحت عنوان آخر هو "ثورة الشك" ولم يكن للأمير أن يبادر باستخدام كلمة "الثورة" الموسومة في مطلع الخمسينيات، حتى لو كانت مضافة لجميع أشكال "الشك" كما كانت كوكب الشرق تنتقل من الرعاية الملكية السامية إلى التقمص الثوري حتى في مجال العواطف الحائرة الحارة ولأننا لا نريد أن نصادر على ما تبوح به القصيدة من دلالات فلنرجئ الفصل في معنى هذا التغيير إلى نهاية القصيدة على أنها تبدأ هكذا:
أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني
يقول الناس إنك خنت عهدي
ولم تحفظ هواي، ولم تصني
وأنت مناي أجمعها مشت بي
إليك خطى الشباب المطمئن
وإذا كان الشك شعوراً حاداً يمزق طمأنينة القلب، وينسف سكينته فإن الشعر لا يستغرق فجأة فيه، بل هو يكاد يلامسه، يوشك أن يقترب منه، في حركة رقيقة وبطيئة تستكشف المواقف والأوضاع، إنه لا ينزلق بعنف إلى دوامته، بل يتريث طويلاً شأن أصحاب المسؤولية الذين لا يتعجلون في الأحكام ولا يندمون عليها إن أصدروها. هنا يتقدم الأمير ليملي على الشاعر طريقة تعبيره، فهو لا يشك ولكنه يوشك أن يضل، وهو يعرف أن الشك فيمن اختاره طعن في قدرته على الاختيار، فمن أحب أحداً ووثق به صار جزءاً من نفسه، فهل تبرهن الأيام على سوء اختياره وفساده ثقته، ليس العاشق ولا الشاعر من على هذا الخطاب المتريث الحكيم بل هو الأمير صاحب الحلم والتدبير، فهو يطلق العيون ويعرف الأقاويل ويسمع ما تردده الشائعة، وهي تفجعه في أقرب الناس إلى قلبه عندما تزعم أنه "خان عهده" ولم يحفظ هواه، بينما يمثل له الحبيب كل المنى الجميلة التي ذهب نحوها في موكب أميري مهيب "مشت بي إليك خطى الشباب المطمئن"، ومع أننا لا نعرف تاريخ كتابة القصيدة على وجه التحديد، وكل ما نعرفه هو تاريخ طبع الديوان مارس 1953م. فإن هذه الصورة السلبية الغزلية تخفي تحتها فيما نظن بنية دلالية أخرى عميقة ذات علاقة وشيجة بالسياسة فالمحبوبة ليست الأنثى الغادرة فحسب، والعاشق ليس الرجل المخدوع، فربما كانت السلطة الفاتنة اللعوب في أقصى درجاتها تثير شهية الأمراء أيضاً وتؤرق مضاجعهم، وتزرع في قلوبهم الريبة القاتلة. هل أدركت أم كلثوم، بفطنتها البالغة، وإسقاطات هذه البنية الدلالية السياسية على المقطع التالي فاستبعدته ولم تشد به:
وقد كاد الشباب بغير عود
يولي عن فتى في غير أمن
وها أنا فاتني القدر الموالي
بأحلام الشباب، ولم يفتني
كأن صباي قد ردت رؤاه
على جفني المسهد أو كأني
الكلام ملتبس بشيء آخر غير الحب والهجران، يطلقه فتى لا تود كوكب الشرق أن تتبنى صوته وتصدح بمخاوفه.