[align=center]ثالثاً : حكم تعلم علم الحروف :
عُقد إجماع أهل السنة والجماعة على تحريم تعلّم وتعليم علم الحروف الذي يُقصد به التأثير في العالم المخلوق ، ولهم في ذلك بيان كاشف .. قالوا :
تعلم أبجد هوز .. ينقسم إلى قسمين :
الأول : مباح ، بأن نتعلمها للتهجي ، أو حساب الـجُمَّل .. وما أشبه ذلك ، فهذا لا بأس به .. وقد اعتنى العلماء بذلك .. فكانوا يؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم .. وأحداث التاريخ .. وتاريخ مصنفاتهم ، وقصائدههم الفقهية والنحوية .. وغير ذلك .
الثاني : محرم ، وهو كتابة أبجد هوز مرتبطة بسير النجوم وحركاتها وطلوعها وغروبها ؛ ليستدل بذلك عل ما سيحدث في الأرض من خير أو شر، وكذلك الاستدلال بها في حدوث المرض أو العافية ، أو السعادة أو الشقاء لبني آدم وغيرهم ..
ومن المحرم - أيضاً - : اعتقاد أن للحروف طبائع مؤثرة في إحداث السعود أو النحوس ، أو التوصل بها إلى معرفة حقائق الأمور .. وغير ذلك من المقاصد والمطالب التي هي في حقيقتها : تجرؤ على خصائص الرب سبحانه وتعالى ، وادعاء علم استأثر الله تعالى به ..
ومن المتفق عليه عند علماء الإسلام : أن من صدق بذلك واعتقده فهو كافر - والعياذ بالله سبحانه - .
أخرج الإمام عبد الرزاق في المصنف(11/26) والبيهقي في السنن الكبرى(8/139) وابن عبد البر في الجامع(2/39) بسند صحيح عن ابن عباس- رضي الله عنهما – قال : ( إنَّ قوماً يحسبون أبا جاد ، وينظرون في النجوم ، ولا أرى لمن فعل ذلك من خلاق ) .
قال الحافظ في الفتح (11/531) : ( وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عدّ أبي جاد والإشارة إلى أنَّ ذلك من جملة السحر ) .
ومما ينبغي أن يُذكر ويعلم في هذا الموضع : أنَّ هذه الحروف ليست أسماء لمسميات ، ولا علاقة لها بمستقبل الإنسان ولا حياته .. ولا غير ذلك من التأثير في عالم الواقع ؛ وإنما ألفت ليعرف بها تأليف الأسماء من حروف المعجم بعد معرفة حروف المعجم .. ثم إنَّ كثيراً من أهل الحساب صاروا يجعلونها علامات على مراتب العدد ، فيجعلون الألف واحداً ، والباء اثنين ، والجيم ثلاثة .. وهكذا ، فجاء الدجالون إلى هذا الاصطلاح وبنوا عليه الأباطيل ، وادعوا أنه علم ، وأنَّ به تُعرف الأمور الغيبية ، وربطوه بالتنجيم .. وكل ذلك من الباطل الذي يجب على المسلمين الحذر منه ، والبعد من مقاربته .. أعذنا الله تعالى وجميع المسلمين من الشرك ووسائله وطرقه بمنه وكرمه .. إنه ولي ذلك والقادر عليه .
رابعاً : فوائد وزوائد في علم الحروف :
ذكر صاحب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد(ص364 ) شارحا أثر ابن عباس- رضي الله عنهما- في نهيه عن تعلم أبي جاد :
(قوله : ما أرى يجوز فتح الهمزة من أرى بمعنى لا أعلم له عند الله من خلاق أي من نصيب، ويجوز ضمها بمعنى لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من قتحام الخطر والجهالة، وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به، وكتابه أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحروف، ولبعض المبتدعة فيه مصنف، فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس بذلك ) .
في الدر المختار من كتب الأحناف(1/44-45) قال : (واعلم أن تعلم العلم يكون فرض عين، وهو بقدر ما يحتاج لدينه . وفرض كفاية، وهو ما زاد عليه لنفع غيره ومندوبا، وهو التبحر في الفقه وعلم القلب.
وحراما، وهو علم الفسلفة والشعبذة، والتنجيم ، والرمل وعلوم الطبائعيين والسحر، والكهانة، ودخل في الفلسفة المنطق، ومن هذا القسم علم الحرف ، وعلم الموسيقى) .
وفي كتاب الأشباه والنظائر ،للسيوطي معدداً أقسام العلوم(1/262-263) قال :
(الرابع : حرام كالفلسفة ، والشعوذة ، والتنجيم ، والرمل ، وعلوم الطبائعيين ، والسحر ، هذا ما في الروضة .
ودخل في الفلسفة : المنطق .
وصرح به النووي في طبقاته ، وابن الصلاح في فتاويه ، وخلائق آخرون .
ومن هذا القسم : علم الحرف .
صرح به الذهبي ، وغيره، والموسيقى نقل ابن عبد البر الإجماع عليه) .
وفي غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر (7/258) من كتب الأحناف ذكر قريباً من ذلك .
قال الإمام الذهبي – رحمه الله تعالى- في تاريخه (13/148) :
( .. الدخول في علم الحروف ينافي طريق السلف ، وهو في شِقّ ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في شِق . وهو مما حرمه الله تعالى بقوله : { ان تقولوا على الله ما لا تعلمون } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) .
قلت : وعلم الحروف يشبه الكهانة والنجوم ، ولا بل هو شرٌ منه . فنسأل الله أن يحفظ علينا إيماننا ) انتهى كلامه .
وقال الذهبي كما في فيض القدير،للمناوي(3/732) : ( قد جاءت النصوص في فناء هذه الدار وأهلها ونسف الجبال، وذلك تواتره قطعي لا محيد عنه، ولا يعلم متى ذلك إلا الله، فمن زعم أنه يعلمه بحساب أو بشيء من علم الحرف، أو بكشف، أو بنحو ذلك فهو ضال مضل ) .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: (ومن الباطل: علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولاً وأزيد، ولا أعرف أحداً يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم ) نقل ذلك عنه الصالحي في سبل الهد والرشاد(3/394) والسيوطي في الاتقان (2/26) .
وفي كتاب الاعتصام للشاطبي(2/309-310)
(وهذا كله إنْ فرضنا أصل العبادة مشروعاً، فإن كان أصلها غيرَ مشروع؛ فهي بدعة حقيقية مركبة؛ كالأذكار والأدعية بزعم العلماء أنها مبنية على علم الحروف، وهو الذي اعتنى به البوني وغيره ممن حذا حذوه أو قاربه، فإن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الأول وهو أرسطاطاليس، فردوها إلى أوضاع الحروف وجعلوها هي الحاكمة في العالم، وربما أشاروا عند العمل بمقتضى تلك الأذكار وما قصد بها إلى تحري الأوقات والأحوال الملائمة لطبائع الكواكب؛ ليحصل التأثير عندهم وحياً. فحكموا العقول والطبائع- كما ترى - وتوجهوا شطرها، وأعرضوا عن رب العقل والطبائع ) .
وفي الموفقات له - أيضاً- (1/86) :
( ..ومثال هذا القسم: ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليداً لذلك الإمام، واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى علم الحروف، وعلم النجوم، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع، فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه الباطنية؛ حتى آل ذلك إلى مالا يعقل على حال، فضلاً عن غير ذلك، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون ،وكل ذلك ليس له أصل ينبنى عليه، ولا ثمرة تجنى منه، فلا تعلق به بوجه ) .
وقد ذكر الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة : أن علم الحروف من أنواع الكهانة والدجل .. انظر ذلك في كتابه (2/217) .
وبعد : فهذا مبحث مختصر .. أحمد الله سبحانه على توفيقه في تحريره ، والله أسال بمنه وكرمه أن يجعله خالصاً لوجه الكريم .. نافعاً للمسلمين في كل مكان ..
والله الموفق لا ربَّ سواه
منقول[/align]