إنك لتعجب من أن يكون بين البشر من يحتكر رحمة الله، ويظن أنها ليست إلا لمن يساويه في الغرور، فيكون كمن ذكر الله قصته مع صاحبه في سورة الكهف، حيث ظن المسكين أن الله إذ وهبه جنتين، كما في وصفهما في القصة، فإن له عند ربه خيراً منهما منقلباً
من فضل الله على خلقه أن وسعت رحمته كل شيء، وأنه لا يملك أحد سواه أن يحجبها عن أحد، أو يمنحها لأحد.
تذكرت هذا وأنا أسمع من خطيب مسجد قصةً لرجل من جماعة مسجده الذي يقع في حي متوسط، ومن الضرورة بمكان أن يغشى المسجد الغني والفقير، والمعظّم عند الناس وغيره، وكان من البلاء أن يصلي ذلك الرجل الميسورة حاله، المهندمة ثيابه، قرب من رثت ثيابه، واتسخ إهابه، فلما فرغا من الصلاة، رفع الفقير يديه إلى السماء متضرعاً، محسناً ظنه برب رحيم، غفور ودود، غني كريم، يسأله سؤال ملح طامع، فكان مما سأل ربه: "اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى من الجنة" فانتفض الغني الميسور، وكادت لهاته أن تخرج من فمه، وهو يصرخ فيه متعجباً، مستنقصاً: الفردوس؟! أنت تريد الفردوس؟
إنك لتعجب من أن يكون بين البشر من يحتكر رحمة الله، ويظن أنها ليست إلا لمن يساويه في الغرور، فيكون كمن ذكر الله قصته مع صاحبه في سورة الكهف، حيث ظن المسكين أن الله إذ وهبه جنتين، كما في وصفهما في القصة، فإن له عند ربه خيراً منهما منقلباً، وظن أن ماله وولده من الكثرة بمكان، وأن جنته لن تبيد، وأنه إنما أوتي ذلك دليلاً على محبة الله، وحسن مراده به!
إن من فضل الله تعالى أن جعل الكرامة عنده، والقرب منه، ومحبته للعبد، ورحمته إياه، ليس لها ميزان دنيوي مطلقاً، فلا مال، ولا جاه، ولا منصب، ولا جمال، ولا قوة، ولا حسب، ولا نسب، يرفع هذا عن هذا عند الله، وإلا لذهب أهل الدثور، وأهل المناصب، وغيرهم بالجنة ومنازلها!
لقد جعل الله ميزان ذلك كله التقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وفي الحديث «رب أشعث أغبر، ذي طمرين، لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره».
لست أريد أن أكون واعظاً في هذا المقال، ولكني أنبه على خصلة خطيرة جداً قد نغفل عنها مع كونها مهلكة للمرء شعر بها أم لم يشعر، إنها احتقار المسلم لأخيه، وفي الحديث «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ».
واحتقار المسلم ينبو عن الإعجاب بالنفس، وذرات من الكبر فيها، و«لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر». كما ثبت هذا عن نبينا صلى الله عليه وآله.
إنّ كل إنسان، ولا أقول كل مسلم، بل كل إنسان مهيأ لنيل رحمة الله، وربما فاق كافر اليوم مسلم غد، من ولد مسلماً، وعاش في كنف الإسلام، وقد قال بعض السابقين من المسلمين يوماً لامرأته حين أخبرته عن رقة حديث عمر بن الخطاب -قبل أن يسلم- معها، أوتطمعين في إسلام ابن الخطاب، لأن يسلم حمار ابن الخطاب أقرب إلي من أن يسلم عمر. فكان أن أسلم عمر، وبلغ من المنزلة في الدين ما سطرت فيه مجلدات، وملئت به الصحف، وعنونت به الخطب والمحاضرات، ولم تفه حقّه.
فمن ذا يظن أن الله لا يمن على شخص ما بالهداية، ويوفقه لدعائه والتضرع إليه، ويدخله جنته، وربما بلغ منزلة ذي الطمرين، أو تلك البغي التي سقت كلباً، أو ذاك السعيد الذي أزاح شوكة؟
وإنه ليزيد الحسرة حين تجد هذه النبرة الاحتقارية، يبوب لها في كثير من كتب الفقه، فيصنفون الناس بين شريف ووضيع، ويردون شهادة أقوام ويأنفون من مصاحبتهم ومجالستهم، ليس إلا لأنهم "أصحاب مهن دنيئة" كما يسمونهم، فأين تذهب هذه العقول الفقهية حين تتحدث هكذا؟! لترسم عن الإسلام "صورة عنصرية" وهو منها بريء. هذا، والله من وراء القصد.
**************************************
ألإثنيـــــــــــــــ29ذوالقعــــــدة1438هــــ،،ــ ـن...