بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افتـقر الخلقُ إليه, ومدّوا يد الحاجة له, والتجئوا مظهرين الفاقة بين يديه، والصلاة والسلام على سيد المفتـقرين إلى رب العالمين وعلى آله وصحبه وجميع التابعين إلى يوم الدين. وبعد: إخواني الفقراء والمساكين الذين تفضل اللهُ عليكم بخفّة الحساب, والسبق إلى الجنان، أوصيكم بوصية الإسلام، لتـتموا حياتكم على كمال الإيمان، ثم تلـقوا ربكم فائزين بتمام الرضوان، أخي الفقير: اعلم أن لله في خلقه شؤوناً، يعطي من يشاء ما يشاء كما يشاء، ويمنع من يشاء ما يشاء كما يشاء، خلق الخلقَ بحكمته، ويبتليهم بعدله، وهو أعلم بهم من نفوسهم، ( ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(1) .
فالله تعالى إن أعطى فبفضل، وإن منع فبعدل، وما منع عبداً شُحاً عليه بل منعه إكراماً له، سبحانه عطاؤه عطاء ومنعُه عطاء، فكن يا أخي حيث أقامك لا حيث تـقيم نفسك، وحيث أراد لك لا حيث تريد لنفسك، وها أنا أبدأ وصيتي لك بقول الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه" (2).
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنزل الله جبريل في أحسن ما كان يأتيني في صورة فقال: إنّ الله تعالى يقرئك السلام يا محمد ويقول لك: إني قد أوحيت إلى الدنيا أن تمرّري وتكدّري وتضيّـقي وتشدّدي على أوليائي كي يحبوا لقائي. فإني خلقتها سجناً لأوليائي وجنة لأعدائي" (3).
وقال عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس إنّ هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشدة. ألا وإنّ الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى؛ فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها، واهجروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها(4).
اعلم يا أخي أنّ الله ما قتر عليك في الرزق لهوانك عليه بل لكرامتك عنده، وما ضيّـق عليك في المعيشة إلا ليخفف عنك الحساب، ثم يُلحقك بالسابقين الأولين، والفقر نعمة إلهية أنعم بها على عبده، ولا تظنن أني أقصد بالفقر الضعف والعجز وقلة المال، فإن هذا مكروه في الإسلام حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر كما كان يستعيذ من الشيطان وإنما الفقر نوعان:
1- فقر ناشئ عن الكسل وحب البطالة وحب الراحة والفراغ واللهو وهذا الفقر مردود في الإسلام .
2- وفقر مكتوب في التـقدير، وهو الذي يقوم صاحبه بالعمل ويسعى بالجد والاجتهاد ويعرق من أجل الأولاد ويبذل الجهد لتأمين المعيشة وستر الحال، لكن الله قَدَرَ عليه رزقَه فهذا الذي يدخل الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة سنة بغير حساب، بل يجعله الله شافعاً مشفَّعاً لكل من أسدى إليه معروفاً ولو شق تمرة أو شربة ماء، فهو يقف يوم القيامة موقف الشهداء والصالحين .
أخي الفقير: ليس الفقر بعار إنما العار أن تسلك مسلك الفقر بالحاجة للغير، وأن تـترك الجد والاجتهاد وبذل الجهد في الاكتساب، وتهمل العمل والسعي، ثم إذا أكرمك الله بشيء من رزق أسأت التصرف فيه بتبذير أو إسراف أو محبة تـقليد الغير، فقدمت إلى شراء زينة لا حاجة لها، بل الواجب أن تـنفق الفضل في حاجتك وحاجة أهلك وولدك مدَّخراً ما زاد ليوم حاجتك ومرضك.
وإن كان رزقك كفافاً فاشكر الله الذي أنعم عليك بما لا سؤال به عليك، ومع ذلك عليك بالاقتصاد ما استطعت وإن كان قليلاً، وادَّخر ليومِ مرضك ما تسد فيه رغبتك عن الاستدانة، فالصدق قول الصادق الأمين: "ما عال من اقتصد" (5)، واجتهد أن تجعل في بيتك مؤونة شهر أو سنة فإن ضاقت عليك يوماً رأيت في البيت ما يسد الحاجة، وإياك والسرف في إطعام أصحابك فإن لقمة تضعها في فم امرأتك أو صبيتك أفضل من إطعام خمسين صاحباً. وأنظر يا أخي دائماً إلى من هو دونك وأقل منك رزقاً لتزداد شكراً لله تعالى، ولا تـنظر لمن هو أعلى منك فتسخط معيشتك وتـنتـقد خالقك وتسوء بذلك نفسك .
واعلم أن للفقير آداباً من جملتها: أن لا يكره ما ابتلاه الله به من الفقر وهذا واجب عليه. وأرفع من هذا أن يكون راضياً بالقدر، وأرفع منه أن يكون فرحاً به لأن الله رضيَ له ذلك، فإن الفقير إذا لبس درع الرضا سلم من حراب الجزع وأسنَّة السخط ونبال التبرم ، والخير كل الخير في الرضا فإن لم تستطع أن ترضى فاصبر، ولو لم يكن في الفقر إلاّ أنه باب الرضا عن الله لكان ذلك كافياً لفضل الفقر على الغنى.
ومن الأدب أن يظهر التعفف والتجمل ويكتم الشكوى والفقر والحاجة، ويعلم أنّ ستر الفقر من كنوز البر، وأن لا يتواضع لغني لأجل غناه، قال سيدنا علي رضي الله عنه:(ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله تعالى وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثـقة بالله عزّ وجلّ).
ومن الأدب أن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم لئلا يخالطه الطمع فيهوي في البلاء، ومن الأدب أن لا يردّ رزقاً أتاه من غير مسألة ولا استـشراف نفس قال صلى الله عليه وسلم : "من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف نفس ولا مسألة فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق ساقه الله إليه" (6).
ومن الأدب: الكسب ؛ وهو بذل الجهد بعمل يُستغنَى به عن الغير. قال لقمان الحكيم(7) لابنه:(يا بني استغنِ بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتـقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الثلاث استخفاف الناس به).
أخي الفقير: إن ضاقت عليك الدنيا فداوها بثلاث: الأول: صبر تذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم وجوعه، وأنه كانت تمضي عليه الأيام وهو يربط الحجر على بطنه من الجوع. ولا يكون الصبر إلاّ بالتحمل لمراد الله من غير شكاية، والطمأنينة بوعد الله من غير لجاجة، والثاني: الرضا بقضاء الله والتوكل على الله والتسليم لأمر الله والبسمة لما أراد الله والسرور بما قسم الله سبحانه، والثالث: الشكر لما اختاره الله لك من نعمة ورحمة ولما جعل فيك من أهلية الشفاعة لمن أسدى إليك معروفاً، وأن جعلك سبحانه باباً لطاعته يتـقرب الناس بسببك إليه بصدقة تظهر صدق محبتهم لله .
ثم إنّ كمال الشكر أن اختارك لتكون أول من يدخل الجنة، وأن جعل رفقتك يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين، وأن لا حساب عليك، وكم من نعمة لله عليك فأكثِر من الحمد والشكر لله الذي اختار لك ما فيه رضاه عنك، فكن صادقاً بإظهار افتـقارك إليه ولجوئك إلى بابه، وانكسارك على باب كرمه وتذللك على أعتاب جوده، مظهراً بين يديه افتـقارك معلناً إليه احتياجك فهو الصمد وإليه الملتجأ، ثم إنّ من الواجب عليك أن تسعى بكل جدك واجتهادك لمواصلة الأعمال من غير فراغ لتمسي ويدك كالّة تعبة من عملك وبهذا تمسي مغفوراً لك.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالاًّ من عمل يديه أمسى مغفوراً له"(8)، ثم اقصد بجِدِّك واجتهادك كفاية أهلك وأولادك وحمايتهم من السؤال لتدرك بشارة النبي صلى الله عليه وسلم: "وأهل الجنة ثلاثة: الثالث منهم : وعفيف متعفف ذو عيال" (9)، ولعلك يا أخي تسعى إلى عمل ولا يتوفر لك الأجر الذي تريد فتـقعد بدون عمل ذلك اليوم، وهذا خطأ فيك بل اعمل بالقليل والقليل خير من العدم. وإن جفاك الرزق وأعرض عنك العمل فاطرق باب التـقوى بملازمة التـقرب إلى الله بالطاعة والعبادة فإن الله يقول: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)(10) وإن ضاق رزقك واشتد عليك نواله وعسر عليك مناله فأكثر من الاستغفار والرجوع إلى الله واسمع قول الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ )(11)، فإنك إن عملت بما أمرَك فإنه سبحانه لا يخلف وعدَه بما وعدَك.
وتيقَّن أنّ رزقك سوف يأتيك على ضعفك وأنّ ما قُدِّر لماضغيك أن يمضغاه لا بد وأن يمضغاه، ولقد رزقك وأنت في ظلمة الرحم وظلمة البطن بين الأحشاء، ولقد شق لك الفم وأوجد لك البلعوم وركّب لك المعدة ووصلها بالأمعاء، والخالق العظيم لهذه الأمور هو المتكفل بإطعام الفم وبلع البلعوم وهضم المعدة وامتصاص الأمعاء، وهو القائل سبحانه ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ )(12) ، واليقين ما خلق الله هذا إلا بالحق ولأمر حق، فلا تخش من جوع ولا تضطرب لفقد حاجة، ولا تشغل فكرك بتأمين رزق غد، فكما أن الله سبحانه لا يطالبك بعمل غد فلا تطالبه برزق غد، ألا يكفيك ما أقسم الله تعالى به: (وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ).(13) سبحانه يرزق الطير في الهواء، والنمل في التراب والحشرات بأنواعها، حتى العنكبوت والوحوش بأسرها، حتى من عمي منها أو عجز.
والفقر يا أخي هو فقد ما هو محتاج إليه، وعلى هذا فكل موجود سوى الله هو فقير محتاج إلى الغني المطلق، وليس في الوجود إلاّ غني واحد، فأظهر افتـقارك إليه ومُدَّ يد الحاجة بين يديه، والذي اتـفق عليه الناس أن فاقد المال يسمى فقيراً لأنه لا يتوصل إلى حاجاته إلاّ بالمال، وهو مضطر إليه ليشبع جوعته أو يكسو عورته أو يطعم صبيته.
قال سيدنا علي رضي الله عنه:" إن لله تعالى عقوبات بالفقر ومثوبات، فمن علامات ثوابه أن يحسن عليه خُلُقُه ويطيع به ربه ولا يشكو لأحد حاله ويشكر الله على فقره. ومن علامات عقوبته أن يسوء عليه خُلُقُه ويعصي به ربه ويترك طاعته ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء" ، فالفقير المحمود هو الذي لا يتسخط ويرضى ويعلم أنّ ما اختاره الله له خير من اختياره لنفسه.
(1) ك:67: الملك-الآية:14 (2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 5: 427 عن محمود بن لبيد، وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وضعفه السيوطي في الجامع الصغير، 1: 242ن رقم 1793. وللبيقهي في الشعب ولابن عساكر رواية قريبة من هذا عن حذيفة رضي الله عنه. (3) أخرجه البيهقي في الشعب عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه. وضعفه السيوطي في الجامع الصغير، 1: 367، رقم 2723 (4) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وانظره في كنز العمال، 3: رقم 6203. (5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، 1: 447 عن ابن مسعود رضي الله عنه. حديث حسن.الجامع الصغير، 2: 430، رقم 7939). (6) أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقي في الشعب وابن أبي شيبة عن خالد الجهني. (7) لقمان الحكيم، يروي أنه كان عبداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل، فأعتقه وأعطاه مالاً، وذلك في زمن سيدنا داود عليه السلام. ولم يكن نبياً على معظم الأقوال، أما سعيد بن المسيب فقد قال: إن لقمان النبي كان خياطاً. واشتهر بالحكمة. انظر:ثمار القلوب، 124، رقم 176، الثعالبي، دار نهضة مصر– 1965 (8) أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنهما. وضعفه السيوطي في الجامع الصغير، 2: 503، رقم 8532 (9) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه. (10) م: 65: الطلاق-الآية: 2 . (11) ك:71: نوح-الآية:11 . (12) ك:23: المؤمنون-الآية:115 (13) ك: 51: الذاريات-الآية:22 .