بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدّ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أما بعد فإنّ الله تبارك وتعالى خلق الإنسان وخلق له فؤادا أي قلبا ينتفع به في التفكر في مخلوقات الله تعالى وجعل في هذا العالم علامات تزيد المؤمن يقينا به قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}.
والاعتبار يكون بأشياء كثيرة وهذا هو التفكر الذي أمر الله به عباده وذلك لأنّ من تأمل في هذه المخلوقات وما يحدث لها من التطور والتغير يزداد يقينا بوجود الله تعالى المصرّف لها كيف يشاء والمنظم وجودها وثباتها على ممر الأزمان قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
أي أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأنّ المحدث لا يستغني عن خالق يخلقه وهذا الخالق لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات وقد حاجّ إبراهيم الخليل عليه السلام أولئك المشركين من قومه بمثل ذلك لينقطعوا عن عبادة الكوكب والشمس والقمر إلى عبادة الله تعالى الذي هو خالقها ومنشئها قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} فإنّ سيدنا إبراهيم عليه السلام أراد أن يبيّن لقومه بأنّ هذه الأجرام الثلاثة الكوكب والشمس والقمر لا تصلح أن تكون خالقة لنا وذلك لأنّ أمارات الحدوث أي علاماتها موجودة فيها فهي تنتقل من حال إلى حال تكون مرئية لنا فتجري فتغيب عنّا وهذا لا يكون إلا في المخلوق فهو إذا لا يصلح لأن يعبد، وإنّما العبادة تكون لله خالقها وخالق كلّ شىء والذي لا يجوز عليه التطور والتغير وأمارات الحدوث، وقد جعل الله تبارك وتعالى في نفس الإنسان ما يستدل به على ذلك قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} فالإنسان فيه ما يدلّ على أنه مصنوع وأنّ له صانعا حكيما عالما قديرا فجعل الله له يدين يبطش بهما ورجلين يمشي عليهما وعينا يبصر بها وأذنا يسمع بها ولسانا يتكلم به وأضراسا يطحن بها الطعام تحدث له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ومعدة أعدت لطبخ الغذاء وكبدا يسلك إليها صفوه وعروقا ومعابر تنفذ فيها إلى الأطراف وأمعاء يرسب إليها ثقل الغذاء ويبرز من أسفل البدن وغير ذلك من الأمور التي تدل على حدوث الإنسان واحتياجه إلى محدث لأنّ الإنسان لا يصحّ عقلا أن يخلق التطور في نفسه لأنه إذا فكّر في نفسه منذ أن ولد رآها على أحوال شتى كان نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما وعظما يعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال لأنه لا يقدر أن يحدث لنفسه في حال الأكمل التي هي حال كمال عقله وبلوغ أشدّه عضوا من الأعضاء ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة فهل رأيتم شخصا قطع له اصبع أو قطعت يده فأنبت يده كما كانت أو أنبت إصبعه كما كانت فالإنسان إن كان لا يقدر عل ذلك في حال كمال عقله وبلوغ أشده فإن ذلك يدله على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز وقد يرى نفسه شابا ثمّ كهلا ثمّ شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى الشيخوخة والهرم ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزيل حال المشيب ويرجع قوة الشباب فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي خلق هذه الأمور بنفسه وأن له صانعا وخالقا نقله من حال إلى حال وأنه لولا أن الله الخالق بدّله لم يتبدل ثمّ إنه لا يتأتى الفعل المحكم والمتقن ممن لا حياة له ولا علم ولا إرادة فيعلم من ذلك أن هذا الخالق حيّ قادر مريد.
ثمّ إذا نظر العاقل وفكّر تفكيرا سليما يعلم أنه لو كان في هذا العالم آلهة إلا الله لفسد فيستدل بذلك على أنّ الخالق واحد لا شريك له وأنه لا يشبه شيئا من العالم لأنه لو أشبه شيئا من المحدثات لجهة من الجهات لأشبهه في الحدوث من تلك الجهة ومحال أن يكون الخالق محدثا.
فالتفكر في القلب في خلق الله تعالى يقوي اليقين ويزيد الخشية من الله والشوق إليه والعاقل إذا نظر في نبات الأرض وراقبه من أول طلوعه إلى أن يصير هشيما يابسا فيتحطم يأخذ من هذا عبرة فيقول نحن أيضا كهذا النبات الذي كان قبل مدة أخضر يسرّ منظره ثم عاد يابسا ثمّ صار حطاما متكسرا لا بدّ أن نموت فلا ندوم على هذه الحال لا بدّ أن نرحل عن هذه الدنيا فيتحرك لتهيئة الزاد للحياة الثانية التي هي بعد هذه الحياة الفانية، فإن كان قبل ذلك على غير حالة التوبة يتوب إلى الله ويترك المعاصي التي كان يباشرها فيجدّ ويجتهد في طاعة الله تعالى.
وقد أنزل الله تبارك وتعالى في القرءان في التفكر ءايات منها هذه الآية التي لها أثر عظيم في تحريك القلوب قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِِّأُوْلِي الألْبَابِ} وقد جاء بعد هذه الآية قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وجاء في كتاب الأدب للبيهقيّ رحمه الله تعالى بالإسناد الصحيح المتصل أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلّم قرأ قول الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِِّأُوْلِي الألْبَابِ } ثمّ قال: "ويلٌ لمن قرأها فلم يتفكر".