انهم "الحضارمة" .. سكان جنوب شبة الجزيرة العربية ، دخلوا الإسلام في العام السابع للهجرة حين وفد وفدهم على النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه في مكة المكرمة ، وهم أولئك القوم النبلاء الذين أوصلوا شعاع الإسلام إلى أقصى الشرق الآسيوي ليفتحوا القلوب قبل الأرض .... فإن القينا نظرة على تاريخ هجرتهم خارج حضرموت وجدناه أكبر وأعظم .. كما قال أمير البيان "شكيب أرسلان" أن تاريخ الحضارم ومجدهم الحقيقي "خارج" وطنهم ، وكان "شكيب أرسلان" رحمه الله ينوي تأليف كتاب بعنوان " السيل العارم في تاريخ الحضارم " وتلك المعلومة نقلها معالي الشيخ عبد الله بلخير ولكن المنية عاجلة "شكيب أرسلان" قبل ذلك .
لقد وفقهم الله في نشر الإسلام ( حتى اصبحو أصحاب الفضل بعد الله في إسلام نصف مسلمي اليوم ) ونشر الحرف العربي وتأسيس حركة أدبية صحفية بحاجة إلى من يتفرغ لدراستها . ولقد أصدر رجال الفكر والأدب الحضارم أكثر من عشرين صحيفة ومجلة في إندونيسيا وحدها ، عوضا عن ماليزيا وسنغافورة وتايلاند وملاوي وبورما والهند وزنجبار والصومال وإثيوبيا وجزر القمر والفلبين . وهذا تراث عربي إسلامي أضاء جبين الأمم المظلمة بأمجاد إسلامية عربية .
إن هناك ألكثير من الناس لا يعلمون ان للحضارم تاريخاً عريقاً ليس في التجارة فحسب بل في الفكر والأدب والدعوة والفقه في البلدان التي استقروا بها ففي إندونيسيا وسنغافورا وماليزيا وغيرها من جزر شرق آسيا عشرات المؤلفات وعشرات الصحف وعشرات المعارك الفكرية التي ألفها وأصدرها وخاضها الحضارم ومما يحز في النفس أن يتجاهل ويغيب في غياهب التاريخ اجتهاد الحضارم المجيد في خدمة الدعوة الإسلامية واللغة العربية والأدب العربي والذي تحدث عنه احد الكتاب المرموقين من منطقة الخليج وهو الكويتي الدكتور يعقوب (وسف الحجي) وذلك حين أصدر ذلك الباحث الكويتي كتاباً ضخماً عن حياة الشيخ عبد العزيز الرشيد الذي أتصل برجال الدعوة الحضارم هناك ، وأختلط تاريخه بتاريخهم فكتب الدكتورالحجي في هذا الكتاب الذي صدر عن " مركز البحوث والدراسات الكويتية " سنة 1993م فصولاً مشرقة ومنصفة عن تاريخ الحضارم المجيد في إندونيسيا وزين كتابه بصور من صفحات الصحف والمجلات التي أصدروها ، وقال إن الحضارم المسلمين هم رواد الحركة الأدبية الصحفية العربية في المهجر الشرقي مثلما كان الشاميون المسيحيون أصحاب الفضل في تأسيس الحركة الأدبية العربية في المهجر الغربي " أمريكا " ولكن الفرق أن أحداً لم يدرس حركة الأدب والصحافة التي أسسها العرب المسلمون في الشرق وانصبت الدراسات على ما قام به العرب المسيحيون في أمريكا .
ليست منّة من أهل حضرموت على أحد من العالمين أن يتولوا نشر الإسلام عبر تقنية الدعوة المحمدية ، فلم يشهروا سيفا ولم يجادلوا بالباطل ، بل تسلحوا بعرى الأيمان وقدموا علما يسمى بــ ( فن المعاملة ) فصدقوا مع الله ربهم فسخر الله لهم قلوب العباد ، فدخلت ملايين البشر أفواجا ، فبالصبر واليقين كانت العزة لدعاة الإسلام من أهل حضرموت وعلى رأسهم (سادتهم آل البيت المحمدي) ، وكانوا ومازالوا مصدر أشعاع في تلك البلاد ، فحفظوا للناس حقوقهم فأوفى الناس لهم حقهم ... فللحضارم هناك ميزات كثيرة تميزهم كعرق من ناحية انثربولوجية وفسيولوجية ، فهم قد تفوقوا في دول شرق آسيا على اعتى جماعات الأعمال في جزر الهادي البعيدة ، وهم العصب الصينية ، وقد ورسخوا –الحضارم- أعمالهم وحضارتهم ومعها دينهم الذي ساد تلك الأصقاع ومبادئهم المتسامحة . ومازال السجل الحضرمي الفردي يزخر بأكثر الأفراد ذكاء وفي أكثر من مجال ، وليس الأعمال والتجارة فقط بل والدينية والثقافية والاجتماعية والفنية والعلمية
والسياسية والنضالية لنيل استقلال تلك الأصقاع ، فنالوا في تلك البلدان أسمى المراتب القيادية ، ولهذا السلوك الحميد دخل الملايين في دين الإسلام حبا وقناعة وان كانت لنا خصوصية نفتخر بها فهذه والحمد لله أهم خصوصياتنا . لم يعزل الحضارم أنفسهم عن المجتمعات التي هاجروا صوبها ، بل هناك تزاوج بينهم وهناك صلة رحم و ود ، وانصهر الكثير منهم في تلك المجتمعات وصاروا من نسيج ذلك المجتمع وجزء من تلك الأمم فوفق منهم الكثير وخابت الأكثرية في جانب التجارة والحياة العملية ، ولا شك إن الذي جذب أولئك الأقوام (الغريبة) إلى الإسلام ما رأوه من تعامل حسن ورجولة وفضيلة في سلوك أولئك التجار الذين قدموا إلى تلك البلاد بقصد التجارة والدعوة إلى الله ثم تزاوجوا مع أهلها وأصبحوا منهم واتجه بعضهم إلى العلم والتدريس ، فأصبحوا رعاة للمؤسسات الإسلامية هناك ، ولا زال عطاؤهم الطيب يؤتي أكله من مدارس وحلقات تحفيظ القران الكريم واللغة العربية .
وحين ابتدأت الهجرة الحضرمية إلى شبة الجزيرة العربية وبالذات إلى ارض الحجاز ، دخلها الحضارمة وهي أشد فقرا وأعظم تخلفا من أرضهم ، فجاءوها و عملوا كما عملوا في الشرق الأفريقي ، واجتهدوا كما اجتهدوا في الوسط الآسيوي ، وأخلصوا كما أخلصوا في اندونيسيا وماليزيا ، فكانت أرض الحجاز مشهدا من مشاهد العطاء في السنون العجاف الأولى ،فكانوا أبناء لتلك البلاد المعطاء التي منحتهم (ممثلة بفخامة الموحد عبدا لعزيز آل سعود ) الثقة الكاملة والمطلقة نظرا لما ذيع عنهم من حسن المقال وحفظ الأمانة . والحضارم قوم قلة من اليمن ولكنهم في العرب كقنطار ملح في صومعة كبيرة من صوامع الغلال ، أعطوا مساهماتهم المتواضعة في الحياة الفكرية العربية ، ابتداء بالشاعر امرئ القيس الكندي ، وأبو العلاء الحضرمي ، وعبد الرحمن الغافقي ، ومرورا بأبي عبدا لرحمن ابن خلدون الحضرمي وعلي احمد با كثير ، و عبدالله بلخير الذي ساهم في الثورة الثقافية في المملكة العربية السعودية في الزمن القريب والكثير الكثير من ألمع رجالات الاقتصاد أمثال الشيخ سالم بن محفوظ الذي بنى أحدى أهم روافد الاقتصاد السعودية واحد أهم مراكز الصرافة بالمملكة التي مولت العديد من المشاريع الخاصة والعامة ، وأحمد سعيد بقشان ومساهمته في الثورة العمرانية بشكل ملفت وخصوصا في الحجاز ومشايخ آل العمودي وآل بامعوضة الصيارفة الذين دفعوا رواتب الدولة في يوما ما ، والكثير أيضا في المجالات العلمية مثل (باخشب) الذي أسس جامعة الملك عبدا لعزيز بجدة على نفقته الخاصة في بداياتها ، وكذلك في المجالات الإنشائية التعميرية مثل الشيخ محمد بن لادن الذي أشرف على أعمال اطهر ثلاثة مساجد عمل فيهم لرضى الله غير مبالي بالأرباح والأموال ، فدفع ثمن لهذه الأعمال صحته وراحته وحياته أخيرا ، والعديد غيرهم ممن قدموا للمجتمعات التي عاشو فيها خدمات جليلة نالوا عليها أجرهم ولكن لم يكن غيرهم ليتجرأ على القيام بتلك الأعمال ( مثل طريق الهدا ) التي عز على الملك فيصل رحمة الله إيجاد شركة مقاولات سعودية أو عربية تقوم بذلك العمل الذي ذهبت روح الشيخ سالم محمد بن لادن أبانه في حادث طائرة فرحمه الله كم من الكيلو مترات تختصر اليوم بفضل الله ثم حنكته الهندسية التي لم يكتسبها من علم بل من فطرة . ويتحدث الناس عن الكثير الكثير من الأسماء اللامعة في عالم الاقتصاد والتجارة والصناعة ، وكيف أن هذه الأسماء بدأت من الصفر ثم أمست من أعظم بيوت التجارة علاوة على ما يتسمون به من النزاهة والدقة في العمل والجلد والصبر والالتزام ، ولذلك فقد كانوا هم اللبنة الأساسية في معظم المؤسسات المالية إدارة وتصريفا ، فالعمل لديهم محترم ووقته ثمين والحقوق محفوظة والأمانة قائمة ، ولا مجال للتلاعب بالزمن أو الأرقام .إن هذه أو تلك لا تنفي حقيقة هذا الارتباط الوثيق بين أبناء الجزيرة هنا وأبناء الجزيرة الذين قدموا من حضرموت ، إن الشعور المتبادل والملموس لدى أرقى الطبقات الاجتماعية في المملكة العربية والسعودية والحضارم لسان حالهم يقول تجاه الآخر : (هم منا ونحن منهم سواء كانوا مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات ، أو كانوا وافدين ترعرعوا في رحاب هذا البلد الأمين أو فيما حوله من هذه المملكة الطيبة) ، فحضارم المملكة العربية السعودية نشأو وترعرعوا فيها و لم يعرفوا إلا ثراها ولم يشموا إلا هواءها ولم ينهلوا العلم إلا من مناهجها .. بادلتهم الحب حبا .. والعطاء عطاء .. والمملكة قيادة وشعبا أهل لتقديم المزيد .
إن تواجد الحضارم في ارض الحجاز قديم كما اشرنا فكانوا مِن مَن استقبل الملك الموحد (عبدا لعزيز آل سعود) رحمه الله ، وما أن أعلن قيام المملكة العربية السعودية ألا وكان هؤلاء القوم الحضارم من أوائل الناس الذين وقفوا كتفا بكتف مع مؤسس هذه البلاد ، فساهموا بكل قدراتهم ، وأعطوا بكل إمكانياتهم ، فكان أول من أعطاهم قدرهم و شعر بهم ، فأشاد بهم الملك والأمير فكانوا سندا وعونا في زمن قل فيه العطاء . إن من شكك في ولاء الحضارم لذات الأرض التي منها وعليها قات واقتات ، فقد جهل من هم الحضارم ، وكيف بك تفهم من جهل بالقوم مقامه .
ليس الحضارم عرقا خاصاً بل هم أخواناً لكل العرب من هذه الجزيرة تفصل بينهم وبين بقية أخوتهم من شتى الأقطار العربية بضعة كيلومترات من الرمال ، ركب أجدادهم البحار صوب شواطئ جديدة في شرق آسيا وفي أفريقيا منذ قرون خوال ، وكانوا خير بني يعرب تمسكا بالدين ومحافضة على قيمه السامية شرفاً وأمانة . إن العقلية الحضرمية والتركيبة النفسية الحضرمية ، تفرض على إخوانكم الحضارمة أن يكونوا أناس لا يعشقون المظاهر ، فبينهم وبينها جفوة كبيرة ، هم البسطاء في التفكير والعقلية والحياة والعيش ، ميالون إلى الحياء والخجل كثيرا ، يتحملون الأذى والمكاره بالصبر ، مقرنين النعمة بالشكر والثناء . جدية في العمل وحرصا على المصلحة وسعياً نحو النجاح .
إن الظاهرة والعقلية الحضرمية جديرة بالدراسة والتمحيص والبحث والتبحر في تاريخ الهجرة الحضرمية ( التي أتت بهم إلى بلدان الغير ) أو كما نسميها بلدان الشتات الحضرمي التي كان لهم دور يعد الأهم بين جميع الأدوار الدعوية في نشر الإسلام فلن نكف عن تكرار مآثرتنا الكبرى إن الفضل بعد الله يعود للحضارم في إسلام قرابة نصف مليار مسلم في شرق آسيا والهند بالإضافة إلى منطقة القرن الإفريقي ، إن الخصوصية الحضرمية ، تلك العملية الاجتماعية المعقدة التي لم يفهمها ويقدر اهميتها البعض كانت هي العامل الأهم في جميع تلك النجاحات في بلاد الغير, وقد كانت دوما هي الرفيق الأول لكل حضرمي يهاجر من بلاده إلى أي صقع من أصقاع الأرض التي أناروها بعد ظلام .