[center] ضوابط لمعرفة البدعة:
حتى نعرف البدعة على حقيقتها لابد من معرفة القواعد والضوابط التي نسير عليها، والمستنبطة من الكتاب والسنة, فنستطيع السير وفق هدى الله، ويمكن بيانها على النحو التالي:
أولاً: الدين مبني على الاتباع لا على الهوى والابتداع، وهو مبني على أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يعبد إلا بما شرعه، قال - تعالى -: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ18.
ثانياً: الأصل في العبادات الوقوف على الدليل أي أن باب العبادات ليس مفتوحاً لكل أحد يثبت منه ما يشاء على ما تهواه نفسه، ويستحسنه عقله، بل التشريع كله لله قال - تعالى -: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ19.
ثالثاً: الأحكام الشرعية تقوم على الأدلة الصحيحة الصريحة، وذلك لأنه لا يحق لأحد أن يحكم على شيء من الأقوال أو الأفعال بشيء من الأحكام الشرعية إلا وعنده على ذلك الحكم دليل من الشريعة، ومن شرط قبوله أن يكون صريحاً صحيحاً.
رابعاً: الشريعة كاملة بأحكامها وفرائضها، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وهذا مأخوذ من قوله - تعالى-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً20.
خامساً: الإحداث والإتيان بالأمر الجديد المخترع بدعة؛ لأنه مبني على إتباع الهوى، والدليل على هذا القيد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وكل محدثة بدعة)).
سادساً: لا يشترط في البدعة أن تُفعل على وجه المداومة والتكرار، بل إن الشيء قد يُفعل مرة واحدة دون تكرار ويكون بدعة مثل: زيادة العاطس "الشكر لله - أي أن يقول بعد عطسته الحمد لله والشكر لله - فهذه بدعة إضافية ولو لم تتكرر.
سابعاً: لا يشترط في البدعة أن تُفعل مع قصد القربة والتعبد، بل إن الشيء ربما كان بدعة دون هذا القصد مثل: السبحة لمن يتخذها لحصر العد دون اعتقاد الثواب فيها عند من يقول ببدعيتها كالشيخ: بكرأبو زيد، وله رسالة فيها.
ثامناً: لا يشترط في البدعة أن يتصف فاعلها بسوء المقصد، وفساد النية، بل قد يكون المبتدع مريداً للخير، ومع ذلك فعمله يوصف بأنه بدعة وضلالة، كما ورد ذلك في أثر ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث قال: "وكم من مريد للخير لن يصيبه"21.
تاسعا: لا يشترط في البدعة أن تخلو عن دلالة الأدلة العامة عليها، بل قد تدل الأدلة العامة المطلقة على شرعيتها من جهة العموم، ولا يكون ذلك دليلاً على مشروعيتها.
ويبين الإمام الشاطبي بعض الضوابط التي تعلم بها البدعة من وجوه22:
أحدها: أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها.
الثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله - تعالى - قال فيها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً23.
الثالث: أن المبتدع معاند للشرع، ومشاق له؛ لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقاً خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخبر أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها... إلى غير ذلك؛ لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، فالمبتدع راد لهذا كله؛ فإنه يزعم أن ثم طرقاً أُخر ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين، كأن الشارع يعلم ونحن أيضاً نعلم، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع أنه علم ما لم يعلمه الشارع، وهذا إن كان مقصوداً للمبتدع؛ فهو كفر بالشريعة والشارع، وإن كان غير مقصود فهو ضلال مبين.
الرابع: أن المبتدع قد نزّل نفسه منزلة المضاهي للشارع؛ لأن الشارع وضع الشرائع، وألزم الخلق الجري على سننها، وصار هو المنفرد بذلك؛ لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق؛ لم تنزل الشرائع، ولم يبق الخلاف بين الناس، ولا احتيج إلى بعث الرسل - عليهم السلام -.
الخامس: أنه اتباع للهوى؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة.
ثالثاً: أقسام البدع:
للبدع أقسام متعددة يمكن بيانها على النحو الآتي:
القسم الأول: البدعة الحقيقية والإضافية:
1- البدعة الحقيقية: وهي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل؛ ولذلك سميت بدعة؛ لأنها شيء مخترع في الدين على غير مثال سابق24، ومن أمثلة ذلك: التقرب إلى الله - عز وجل - بالرهبانية: أي اعتزال الخلق في الجبال، ونبذ الدنيا ولذاتها؛ تعبداً لله - عز وجل-، ومن أمثلة ذلك: تحريم ما أحل الله من الطيبات تعبداً لله - عز وجل -25.
2- البدعة الإضافية: وهي الأمر المبتدع مضافاً إلى ما هو مشروع بزيادة أو نقص، يقول الإمام الشاطبي في البدعة الإضافية: "أن الأمر يكون مشروعاً في الأصل، وقامت الأدلة على مشروعيته، ولكن الكيفية أو الهيئة التي يؤدى بها ليست مشروعة، فمن هنا سميت هذه البدعة إضافية لأنها لم تتخلص لأحد الطرفين لا المخالفة الصريحة، أو الموافقة الصريحة"26، ومن أمثلة ذلك: الذكر أدبار الصلوات أو في أي وقت على هيئة الاجتماع بصوت واحد، أو يدعو الإمام والناس يؤمنون أدبار الصلوات، فالذكر مشروع ولكن أداؤه على هذه الكيفية غير مشروع، وبدعة مخالفة للسنة27، ومن ذلك تخصيص يوم النصف من شعبان بصيامه وقيام ليلته، وكذا صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من رجب.
القسم الثاني: البدعة التَّركية والفعلية:
قبل الكلام عن البدعة التركية والفعلية لابد من تبين: هل الترك يعد فعل من الأفعال الاختيارية، ويكون بذلك طاعة من الطاعات، أو معصية من المعاصي، والذي يظهر لي من أقوال العلماء أنه فعل من أفعال التعبد، ويدل عليه قوله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ28، فإن الترك لما أمر الله يعد بدعة من البدع.
1- البدعة التَّركية: قد يقع الابتداع بنفس الترك تحريماً للمتروك، أو غير تحريم؛ فإن الفعل - مثلاً - قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسه تديناً سواء كان المتروك مباحاً أو مأموراً به، وسواء كان في العبادات، أو المعاملات، أو العادات: بالقول، أو الفعل، أو الاعتقاد؛ إذا قصد بتركه التعبد لله كان مبتدعاً بتركه29، ومن الأمثلة على ذلك: ترك الزكاة، ترك السنن ... وغيرها.
2- البدعة الفعلية: اختراع أفعال في الدين والتعبد بها، ومنها اختراع الأحاديث الموضوعة، فإنها تدخل في تعريف البدعة: فهي طريقة في الدين مخترعة تشبه الطريقة الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله - سبحانه -30، ومن أمثلة ذلك: الزيادة في شرع الله ما ليس منه كمن يزيد في الصلاة ركعة، أو يدخل في الدين ما ليس منه، أو يفعل العبادة على كيفية يخالف فيها هدي النبي - صلّى الله عليه وسلّم-31، أو يخصص وقتاً للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام32، ومن الأمثلة على ذلك: زيادة وقت الصيام.
القسم الثالث: البدعة الاعتقادية والقولية والعملية:
1- البدعة الاعتقادية: وهي اعتقاد الشيء على خلاف ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- كبدعة الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، وسائر الفرق الضالة، ويدخل في ذلك الفرق التي ظهرت كالقاديانية، والبهائية.
2- البدعة القولية: تغيير قول جاءت به الشريعة، أو ابتداع قول لم تأت به الشريعة؛ كالقول بخلق القرآن ... وغيره.
3- البدعة العملية العمل الذي يخالف أمر الله وهي أنواع:
النوع الأول: بدعة في أصل العبادة، فيحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع كأن يحدث صلاة غير مشروعة، أو صياماً غير مشروع، أو أعياداً غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها.
النوع الثاني: ما يكون من الزيادة على العبادة المشروعة كما لو زاد ركعة خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً.
النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة بأن يؤديها على صفة غير مشروعة، وكذلك أداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة، وكالتعبد بالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن السنة، ومن أمثلته: "قصة الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلّى الله عليه وسلّم -؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكني: أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))33.
النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع: كتخصيص يوم النصف من شعبان بصيام،