بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، ثمّ الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وما توفيقي، ولا اعتصامي، ولا توكّلي إلا على الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقرارًا لرُبوبيَّته، وإرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر، ما اتَّصَلَت عين بنظر، وما سمعت أذنٌ بِخَبر، اللَّهمّ صلّ، وسلّم، وبارك على سيّدنا محمّد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريّته، ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللَّهمّ ارْحمنا، فإنّك بنا راحِم، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدْنا علمًا، وأرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، ورد في الحديث الشريف الصحيح أنّ معترك المنايا بين الستّين والسبعين، والوقائعُ تؤكّد هذا الحديث الصحيح إذْ أنّ الناس يغادرون الدنيا فيما بين الستّين والسبعين، أو الخمسين والستّين، أيْ إذا تجاوَزَ الإنسان سنّ الأربعين دخل في أسواق الآخرة، لذلك ألف الناس مِمَّن تجاوزوا الأربعين أو الخمسين أن يأتي على خاطرهم شبح الموت، وأن ترد على مخيِّلتِهم خواطر مفارقة الدنيا، والشيء الذي يُلفتُ النّظر هو أنّ الله جلّ جلاله جعل الموت مُغيَّبًا عن الإنسان، وهناك حوادث كثيرة يُغادر فيها الإنسان الحياة الدنيا في سنّ مبكّر.
عُدْت إلى كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري في باب الترغيب في ذِكر الموت، فوجدْتُ من خلال الأحاديث الشريفة أنّ ذِكر الموت واجبٌ ديني، ولا علاقة له بِسنّ من السنين، الشاب عليه أن يذكر الموت وهو في مقتبل الحياة، والشيخ عليه أن يذكر الموت، والكهل عليه أن يذكر الموت لأنّ ذكر الموت عبادة، وباب واسعٌ جدًّا، وقد قعد فيه المؤلّف أحاديث كثيرة للنبي عليه الصلاة والسلام على التفكّر في الموت.
ويا أيها الإخوة الأكارم، بعض الناس لضِيق أُفقهم يتشاءمون من الموت، مع أنّ الموت هو الحدَث الواقعي الذي لا بدّ منه في حياة كلّ إنسان، فالقويّ يموت، والضعيف يموت، والغنيّ يموت، والفقير يموت، وذو الصحّة يموت، والمريض يموت، والظالم يموت، والمظلوم يموت، وكلّ مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزّة والجبروت، الليل مهما طال فلا بدّ من طلوع الفجر، والعُمْر مهما طال فلا بدّ من نزول القبر،
كلّ ابن أنثى وإن طالتْ سلامته يوما على آلة حدباء محمول
فإذا حملْتَ إلى القبور جنازةً فاعلَم بأنّك بعدها مَحمــول
يا تُرى ما الحِكمة التي أرادها النبي عليه الصلاة والسلام من حضِّنا على التفكّر في الموت؟ ويا تُرى ما الحِكمة التي أرادها النبي عليه الصلاة والسلام من حضِّنا في أحاديث تزيد على السبعين حديثًا على التفكّر في الموت ؟ يا أيها الإخوة الأكارم فيما يبْدو أنّ المتفكّر بالموت يكتسبُ حافزًا إلى الله عز وجل، والتفكّر بالموت يجعل له سِياجًا يُبقيه في طاعة الله، وفي منهج الله، فالتفكّر في الموت من جهة هو دافعٌ وحافزٌ إلى طلب رِضوان الله عز وجل والاستقامة على أمره، والعمل الصالح، ومن جهة ثانيَة التفكّر في الموت هو سِياجٌ يحول بينك وبين الخروج عن منهج الله، فكأنّه سِياجٌ محكم ودافعٌ فعّال، وهذا التفكّر لا علاقة له بسِنٍّ من السنين، وقد تطالعنا أخبار المجتمع من حينٍ إلى آخر أنّ شابًّا في مقتبل الحياة فارق الدنيا بلا سبب، نام فلم يسْتيقظ ! هذه الأخبار التي تتوارد إلى أسماع بعض الناس مُفادها أنّ الله جلّ جلاله لحكمة بالغة أخْفى نهاية الأجَل عن الإنسان لِيَكون إخفاء الأجل حافزًا له على طاعة الله عز وجل، وعلى التقرّب إليه، فالإنسان لا يدري متى يكون الأجل.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه من عدَّ غدًا من أجله فقد أساء صُحبة الموت، يكفي أن تقول: سأعيشُ غدًا، وسأفعلُ كذا وكذا، من عدَّ غدًا فقط، واليوم التالي، من عدّ من أجله فقد أساء صُحبة الموت إليكم أيها الإخوة بعض الأحاديث الشريفة الصحيحة التي حضّ فيها النبي عليه الصلاة والسلام على التفكّر في الموت، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّات))
[ رواه النسائي ]
وفي رواية:
((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت ؛ فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه))
[ رواه البيهقي ]
عجيبٌ أمر الموت، إن كنت في ضيقٍ فتذكُّر الموت يُوسّع هذا الضّيق، وإن كنتَ في سعةٍ تفكّر الموت يضيّق هذه السّعة، إن كنت تعاني من مشكلة، من ضيق ذات يدٍ، من مرضٍ، من مشكلةٍ، من مأساةٍ، من فقْد حبيب، من شبح مصيبة، إذا ذكرْت الموت ذكَّرك بالآخرة، ذكَّرك ما عند الله من نعيمٍ مقيم، ذكّرك بالجنّة، وما فيها من طيّبات، ذكّرك بإكرام الله جلّ جلاله، وذكّرك بالحياة الأبديّة التي لا قلق فيها، ولا همّ، ولا حزَن، ولا كبر، ولا مرض، ولا خوف، ولا فقْر، وإن كنتَ في سعةٍ وقد ركنْت إلى هذه السّعة، ورأيْت أنّ الدنيا كلّها بين يديك، وأنّها طوْعُ بنانك، إذا ذكرْت الموت، وأنت في هذه السّعة ضيَّقها عليها، عجيبٌ أمر الموت ! له مفعولٌ متعاكس فإن كنت في ضيقٍ وسَّعه عليك، وإن كنت في سعةٍ ضيّقها عليك، أعيد عليك نصّ الحديث:
((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت؛ فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه))
[ رواه البيهقي ]
وعلماء التوحيد يرَوْن أن كلام النبي وحْيٌ، ولكنّه غير مَتْلو، لقوله تعالى:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
[ سورة النجم ]
فإذا كنتَ في سعةٍ، وقد أفلت الزّمام من يدك، وجاءَت الدنيا مُقبلةً لئلاّ تغترّ بها، لئلاّ تركن إليها، ولئلاّ تنسى ربّك، ولئلاّ تنسى الدار الآخرة، ذِكْر الموت كأنَّه مكْبحٌ يكبحُك عن الاسترسال في الدنيا، وإذا كنت في ضيقٍ وحاجةٍ، ومشكلة فإنّ ذِكْر الموت يُخفّف وقْعَها عليك، ويجعلك ترضى بِقَضاء الله، وتتعلّق بما وعدكَ الله به من إكرامٍ في دار النعيم.
أيها الإخوة الأكارم، قلتُ يا رسول الله: فما كانت صحف موسى ؟ ألم يقل الله تعالى:
﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾
؟ أحد الصحابة سأل النبي عليه الصلاة والسلام: ما كانت صحف موسى ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كانت عِبَرًا كلّها، مما ورد في صُحف موسى: عَجِبُْ لِمَن أيْقنَ بالموت ثمّ هو يفرح، وعجبتُ لمن أيقن بالنار ثمّ هو يضحك، وعجبتُ لمن أيقن بالقدر ثمّ هو ينْصب يعني يهتمّ، وعجبتُ لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها ثمّ اطمأن إليها، وعجبتُ لمن أيقن بالحساب ثمّ لا يعمل.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ:
((دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَلَّاهُ فَرَأَى نَاسًا كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ قَالَ أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلَّا تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلًا أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوْ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ قَالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْتَقِيَ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا لَوْ أَنْ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الْأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ))
[ رواه الترمذي ]
المؤمن من خصائصه أنّه يفرح بِرِضْوان الله، وبطاعته بالله، يفرحُ بعَملٍ صالح ساقه الله إليه، يفرحُ بخَير عميم أجراه الله على يديه، يفرحُ إذا شعر أنّ الله يحبّه، يفرحُ إذا شعر أنّ الله يرضى عنه، قال تعالى:
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
[ سورة يونس ]
ينبغي أن تفرحوا بهذا، لا أن تفرحوا بالدنيا، لأنّ الفرح بالدنيا دليل ضعف الإيمان، قارون فرح بما آتاه الله من مال، فقال له قومه كما قال تعالى:
﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾
[ سورة القصص ]
يقول عليه الصلاة والسلام:
((فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ إِلَّا تَكَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ - كلّكم يعلم أنّ هناك لسان المقال، وهناك لسان الحال، أحيانًا القبر يتكلّم لا بلِسان المقال، ولكن بلِسان الحال يقول: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ مَرْحَبًا وَأَهْلًا أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ قَالَ فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ أَوْ الْكَافِرُ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ لَا مَرْحَبًا وَلَا أَهْلًا أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ وَصِرْتَ إِلَيَّ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ قَالَ فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَلْتَقِيَ عَلَيْهِ وَتَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ قَالَ وَيُقَيِّضُ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّينًا لَوْ أَنْ وَاحِدًا مِنْهَا نَفَخَ فِي الْأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ))
[ رواه الترمذي ]
هذا هو بَيْتُ الْوَحْدَةِ، بَيْتُ التُّرَابِ، وبَيْتُ الدُّودِ، إما أن يكون بعملك الصالح، وطلبك العلم، وخدمتك للخلق، واستقامتك على أمر الله، وبذْلك من الخيرات إرضاءً لربّك يصبحُ القبر روضةً من رياض الجنّة، أو يصبح القبر والعياذ بالله حفرة من حفر النار.
في رواية أخرى عن أبي هريرة قال:
((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس إلى قبر منها فقال: ما يأتى على هذا القبر من يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلق طلق (أي فصيح بليغ) يا ابن آدم كيف نسيتني؟ ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار))
[ رواه الطبراني في الأوسط ]
ألا تقرؤون في النعي: وسيُشيَّعُ إلى مَثواه الأخير، معنى ذلك أنّ بيوتنا مهما اعْتنَيْنا بها، هي مثْوى موقّت أما المثوى الأخير معروف.
ابن عمر، رضي الله عن ابن عمر، وعن أبيه عمر، قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلّم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار، فقال يا نبي الله، رجل أنصاري يسأل النبي عليه الصلاة والسلام، قال يا نبي الله: من أكْيسُ الناس ؛ أيْ أعقلهم، والناس كما تعلمون يتفاوتون بعقلهم، إنّ الرجلين ليسْتوي عملهما، وبرّهما، وصومهما، وصلاتهما، ويختلفان في العقل كالذّرة جنْب أحد، فقِوامُ المرء عقلهُ، قال يا نبي الله: من أكْيسُ الناس ؟ ومن أحزن الناس ؟ من أشدّهم حزنًا ؟ ومن أمْلكهم لنفسه ؟ وأقواهم إرادةً ؟ قال يا نبي الله: من أكْيسُ الناس ؛ ومن أحزن الناس ؟ اسْتمعوا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام وإجابته ؛ قال: أكثرهم للموت ذِكْرًا أعقلهم، وأكثرهم اسْتعدادًا لها، أولئك الأكياس - جمْعُ كيِّس- ذهبوا بشَرف الدنيا، وكرامة الآخرة، والمعنيان متكاملان، فلا يكفي أن نُكثر من ذِكر الموت، لا بدّ أن نستعدّ له، إن كان ذكرنا للموت صحيحًا، تُتَرجمُ هذه الصحّة بِكَثرة استعدادنا له، بالاستقامة، بِتَحرير الدّخل، بِضَبط الإنفاق، بِضَبط الجوارح، بضَبط البيت، بأمر الأهل بالصلاة، بتَوجيه البنات في خروجهنّ إلى ما يُرضي الله عز وجل، أشدّكم للموت ذِكرًا، وأحْزمكم أشدّكم استعدادًا له.
عن سهل بن سعد الساعدي قال:
((مات رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يثنون عليه، ويذكرون من عبادته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما سكتوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كان يكثر ذكر الموت ؟ قالوا: لا، قال: فهل كان يدع كثيرا مما يشتهي ؟ قالوا: لا، قال: ما بلغ صاحبكم كثيرا مما تذهبون إليه))
[ رواه الطبراني ]
بالمناسبة الإنسان لا يحقّ له أن يزكّي أحدًا على الله، لِيَعتدل في مديحه، وليقل الله أعلم، أما أن يُبالغ في المديح على صيغة الجزم والحزم، فهذا سمّاه العلماء التألّي على الله، استنبطوا ذلك من حديث النبي عليه الصلاة والسلام كان عند أصحابه الذين وافتْهم المنيّة، واسمه أبو السائب، فسمع النبي من وراء الستار امرأة تقول: هنيئًا لك أبا السائب لقد أكرمك الله، فقال عليه الصلاة والسلام يخاطب المرأة من وراء الحجاب: ومن أدراك أنّ الله أكرمهُ ؟ قولي أرْجو الله أن يكرمهُ، فنحن بين أن نقول: قد أكرمه الله، وبين أن نقول: نرجو الله يكرمهُ الله.
فالنبي كان ساكتًا، أصحابهُ يثنون عليه الشيء الكثير، فلمّا سكتوا وانتبهوا لسُكوته، سُكوته يلفتُ النظر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هل كان يكثر ذكر الموت ؟ قالوا: لا، قال: فهل كان يدعُ كثيرًا ممّا يشتهي ؟ قالوا: لا، فقال عليه الصلاة والسلام: ما بلغ صاحبكم كثيرًا ما تهبون إليه، العبارة الدقيقة، هو صالح، ونرجو الله أن يدخلهُ الجنّة، ولكنّكم أبْعدتم كثيرًا في الثناء عليه، ما دام ما كان يذكر الموت، وما كان يدعُ ما يشتهي، إذًا ما بلغَ صاحبكم كثيرًا مما تذهبون إليه.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
[ رواه الترمذي ]
الرأس فيه عينان، هل تغضّان عن محارم الله ؟ الرأس فيه أذنان ؛ هل تستمع بهما إلى الغناء ؟ الرأس فيه لسان، هل ينطلق اللّسان بالكذب والغيبة والنميمة، والفحش، وقول الزور، والبهتان، والسخريّة، والاستعلاء والسباب، والشتائم، والمزاح الرخيص، هذا الدّماغ ما خواطرهُ ؟ إيقاعٌ بين الناس، تبُّعٌ للعورات، تفكير في معصيَة، أما أنّ خواطره طاعة لله عز وجل، وذِكْرٌ لله، قال:
((وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى))
هل تأكل مالاً حلالاً ؟ أم أنّ في دخلِك شبهة ؟ هل تطعم أولادك مالاً حلالاً؟
((اسْتَحْيُوا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ))
[ رواه الترمذي ]
وعن الضحاك رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلّم رجل فقال: يا رسول الله من أزهد الناس ؟ من لم ينسَ القبر والبِلى، وترك فضل زينة الدنيا، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدّ غدًا من أيّامه، وعدّ نفسهُ من الموتى - تعريفات جامعة مانعة - قال يا رسول الله: من أزهد الناس ؟ قال رسول الله: رجلٌ لم ينْسَ القبر والبِلى ؛ الآن كلّ إنسان يدفن قريبه في قبر يجد بعض العظام، دُفن هناك فلان قبل عشرة سنوات، وفلان قبل عشرين عامًا، هذا هو البِلى، كان ملء السمع والبصر فأصبح خبرًا، كان يُخشى بطشهُ فأصبحَ كلمةً تُكتبُ على الجدران، من لم ينْس القبر والبلى، وترك فضل زينة الدنيا ؛ يعني اكتفى بالأساسيّات والحاجيات وترك زينة الدنيا لأهلها، وآثر ما يبقى على ما يفنى، ولم يعدّ غدًا من أيّامه، وعدّ نفسهُ من الموتى.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: كفى بالموت واعظًا، وكفى باليقين غِنًى.
عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ:
((كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى ثُمَّ قَالَ يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا))
[ رواه ابن ماجه ]
لهذه الساعة، ولِساعة نزول القبر، ولِساعة طبْع النعي، لِساعة إعلان التعزيَة، في البيت الفلاني، وفي المكان الفلاني، لهذه الساعة التي يبكي فيها من حولك، إن كنتَ بطلاً تضحك في هذه الساعة، كما قال الإمام الشافعي، الإنسان حينما يولَد هو يبكي، ومن حوله يضحكون، فإذا جاء أجله من حوله يبكون، وإن كان بطلاً، وأعدّ لهذه الساعة عدَّتها، واسْتعدّ للموت، وعرف الله في وقتٍ مبكّر، وشكَّل حياته وفْق مرضاة الله عز وجل، إن دقّق في دخله وإنفاقه، إن دقّق حواسّه وجوارحهُ، الناس يبكون وهو في عرس، قال تعالى:
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾
[ سورة يس ]
أعددْت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،
((قَالَ يَا إِخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا))
[ رواه ابن ماجه ]
لهذه الساعة، ولِساعة نزول القبر، لنزول بيت الوحدة، وبيت الغربة وبيت التراب، وبيت الدود، وبيت الوحشة، لذلك أيّها الإخوة طلب العلم فريضة، كيف تعرف ؟ بالعلم، خطبة الجمعة ما هي إلا حافِز، ولكن لا بدّ من طلب العلم، وفهم كلام الله عز وجل، لا بدّ من فهم سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وسنَّته.
وعن أنس قال عليه الصلاة والسلام: أربعة من الشقاء ؛ جمود العين وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرْص على الدنيا.
جمود العين ؛ لا يتأثّر، ولا يخشع قلبه، ولا تهتزّ مشاعرهُ، وقسْوَة القلب لا يلينُ قلبه لمسكين، ولا لفقير، ولا لبائسٍ، ولا ليَتيم، ولا لأرملةٍ، ولا لمريضٍ، قلبٌ قاسٍ كالصّخر، وطول الأمل ؛ في ذهن الناس مشاريع وطموحات إلى أربعين عامًا قادمة، وقد يأتي الأجل بعد عام أو عامين، طول الأمل من شقاوة ابن آدم، والحرص على الدنيا، من أجل الدنيا يرتكب المعاصي والآثام ويأكل المال الحرام، ويغتصبُ ما ليس له، وينتهك ما ليس له، هذا كلّه من أجل الدنيا.
وعن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: صلاح أوّل هذه الأمة بالزهد واليقين، الزهد في الدنيا، واليقين بالآخرة، وهلاكُ آخرها بالبُخل والأمل.
لذلك أختم خطبتي بِقَول النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شيءٌ مُشاهد يعيشُه كلّ واحد منّا، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ))
[ رواه أبو داود ]
اللهمّ علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علما، والحمد لله رب العالمين.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أنّ سيّدنا محمَّدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، ما أردْتُ من طرْح هذا الموضوع أن نتشاءم، فقد يقول أحدكم: الموضوع كلّه عن الموت ! هذا موضوع واقعي، وليْسَ في حياتنا جميعًا موضوع أشدّ واقعِيَّة من هذا الموضوع، كلّنا على هذا الطريق، القرار بالموت صدر مع وقف التنفيذ، فلْيعدّ نفسه من الموتى، جئنا على هذا الأساس، ووُلِدنا على هذا الأساس، لكن مع وقف التنفيذ، والتنفيذ مُبرْمج، وكلّ له أجله، فالمرض لا يُميت، ولكن يُميتُ انتهاء الأجل فأنْ نؤمن بالموت، لا أعتقد أنَّه في العالم الإسلاميّ مسلمٌ واحد يشكّ في أنَّه سيموت، ولكنّ البُطولة في الاستعداد للموت، والاستعداد للموت لا يعني أن ندع أعمالنا ! لا، اِعْمَل وادْرس وتاجِرْ، لكن كما قلتُ في بداية الخطبة، التفكّر بالموت، وتذكّر الموت، ليَكون هذا التذكّر حافزًا إلى الله، وحافزًا إلى طاعته، حافزًا إلى الإنفاق، وحافزًا إلى البذْل، حافزًا إلى التضحية، وإلى الصدقة، وإلى دفْع الزكاة، إلى إنفاق المال، إلى التقرّب إلى الله عز وجل، هذا بابٌ من أبواب التفكر في الموت، والباب الثاني التفكّر بالموت أو تذكّر الموت يجعل لك سياجًا على حافتي منهج الله، فأنت دائمًا في منهج الله لا تحيدُ عنه، ولا تخرج منه، ولا تستمرئ الدنيا، ولا تضعف مقاومتك أمام مغرياتها ومباهجها.
يا أيها الإخوة الأكارم، حافزٌ وسِياج، تذكّر الموت ؛ حافزٌ دافعٌ، وسِياج يحمي صاحبهُ من الزلل والمعصيَة، وما سوى ذلك المؤمن في كلّ حركاته وسكناته يُكتب له عند الله أجرٌ عظيم، قلتُ لكم سابقًا وأقول هذا مرّة ثانية ؛ أعمالكم، وحرفكم، ومهنكم، هذه إذا كانت في الأصل مشروعة، ومارسْتموها بطريقةٍ شرعيّة، وأردتُم بها أن تكْفوا أنفسكم وأهليكم، وأن تتقرّبوا إلى ربّكم، وأن تخدموا المسلمين، وغير المسلمين، وأن تنصحوا عامّة الناس، ولم تشْغلكم عن فريضة صلاةٍ، ولا عن طاعة، ولا عن مجلس علْم، هذه الأعمال والحِرَف والمِهَن انقلبَت إلى عبادة في حقّ المؤمن، والقاعدة الأصوليّة أنّ المباحات عند المؤمن تنقلب إلى عبادات شراء بيتٍ، وتأسيسه، والزواج، والعمل، وكسْب المال، وإدخال السرور على الأهل، هذا كله عند المؤمن من العبادات.